قفرٌ على امتدادٌ البصر، تشقُّهُ طريقٌ متآكلَة الأطراف، ولا تنعشهُ سوَى رائحة البحر القويَّة، ثمَّ تجدُكَ فِي قريَة “لاساركَا”؛ الواقعة على بعدِ كيلومتراتٍ خمس من الداخلة. قواربُ تسترِيحُ من رحلاتٍ الصيد، تنبعثُ من بعضهَا روائحُ الاصباغ، فيمَا تدَقُّ مسامِير الصيَانة بأُخرى، والهدُوء مخيم على المكان.
الصيَادُون في قريَة “لاساركَا” للصيْد التقليدِي، مستكينُون عند المساء، بعضهُم قصدَ مقهًى من الصفِيح، يتعالى منها صخبٌ ودخَان، وآخرُون يتفقدُون مراكبهم، يحدقُون فِي الوافد، وقدمَاه تعثران وسطَ القمامة المتراميَة، بين دُور الصفِيح، التِي قدْ يلتئمُ فيها القصبُ والبلاستيك والزنك، لتشكيلٍ مسكن يأوِي الصيَّاد، متمَّ النهار.
“كلُّ منْ تراهم هُنَا بؤساء، قدْ تبحثُ بمشقَّة عن خمسين درهمًا في جيبِ أحدهم فلَا تجدهَا، منهُم من قضَى السنوات الطوَال يعمل ويكدُ، فلمْ يجنِ سوَى ما سدَّ به الرمق..النَّاس هُنَا يكابدُون الرِّيع، فجواز الأمان المملوك لأصحاب الرخص، يراكمُ الثروات، فيمَا البسطاء، يمضُون الأيَّام، دُون استفادة” يقُول عبد الحق، الذِي أمضَى عقدَين يمخرُ البحر، وباتَ اليومَ صوتًا مسموعًا وسط “البحارة”.
تحتَ شمس العصر صحبنَا عبد الحق إلى مساكن الصيادين، مئات البرارِيك، التِي تنتصبُ بالكَاد فوق الأرض وتظلُّ قائمة، لا ماء فيها ولا كهرباء، بداخلهَا روائح عطنَة قويَّة يصعبُ تحمُّلها، “نعيشُ قهرًا ما بعدهُ قهر، والواحدُ منَّا لا يجدُ حتَّى مكانًا وماءً ليقضِي به الحاج، تصوَّرْ أنَّ من الصيادِين من يقضِي حاجته في كيسٍ بلاستيكِي ويخرجُ ليرمِي بها بجانب إحدَى المزابل”، يقُول سعِيد، أحد حرَّاس المكَان.
منْ مآسِي الصيادِين، يسوقُ عبد الحق وسطَ نفرٍ من زملائه، إشكَال “الكُوطَا”، الذِي تلهجُ به كلُّ الألسنَة ، “الحصَّة المخصصة من الرخويَّات لكلِّ قارب، لا يستفِيدُ منها “البحار”، لأنَّ أرباب القوارب، الذِي يحوزُون الرخص، هم من ينالُون الحصَّة، ثمَّ يبيعُونها مباشرة للوسيط”.
بيعُ صاحب الرخصة “كوطا” الرخويَّات يضطرُّ “البحار” إلى أن يصيد في قارب آخر دون أوراق، أوْ في القارب الذِي بيعتْ حصته، كيْ يتدبَّر سمكًا يبيعهُـ” لصحاب الميزان”.
في الأصل الحصَّة المحددة في طنين، ممنوحة للقارب بصيَّاديه؛ الذِين يتوجبُ أنْ يستفيدُوا جميعًا،” لكننا سقطنَا في اقتصاد الريع، لأنَّ الكوطَا تباع، والصياد يعملُ ليبيع ما يحصلُ عليه بثمنٍ أقل..المواطنُون هنا على الهامش”.
القواربُ الخشبيَّة التِي تبدُو منهكةً، وقدْ يخَال كثيرون أنَّ ما يظفرُ به الصيادُون على متنها يؤُول إليهم، يصلُ ثمن الواحدة منها كاملة برخصتها وأوراقها من “جواز الأمان إلى أربعِين مليُون سنتِيم، “فِي 2004 كان هناك حوالي 7 آلاف قارب برخصة، وآلاف أخرى دون أوراق، جاء مخطط صيد الأخطبُوط، لتقليص عدد القوارب الموجودة في وضع قانوني إلى 2500 قانُونِي، من أجل الحفاظ على مصَايد الأخطبُوط، فَكان وبالًا علينا، لقدْ نصَّبتْ بعضُ الجمعيَّات نفسها وصيَّة على القطاع تفصلُ ما يتلاءَمُ ومصالحهَا، وتستعبدُ من شاءت“.
بوجُوه ألفت لفح الشموس كانَ صيَّادُون يتطلعُون إلينا بنظراتٍ ثاقبة، يتحلقُون حول الموضع ، داعِين إلى إطلالةٍ على برارِيكهم، عبد الرحمن ورغُوس كان أحدهم، حيثُ شبَّ حريقٌ في “براكته، وأصيب بحروق في بدنه، وضاعَ بعضُ ما كسبَ من مالٍ.
“لمْ يعوضُونِي، فعدتُ من جديد، لأسكن برَّاكَة أدارِي بها البؤس، كلُّ من تراهم هنا مغلوبُون على أمرهم، لا حول لهم ولا قوَّة، ومنهم من لمْ يبرح المكان منذُ أشهر، لأنَّ ما شيء في جيبه، يسمحُ له بزيارة أبنائه، الصياد مواسم وما تكسبهُ في شهر من الأشهر قدْ لا يتأتَّى في آخر”، يردفُ عبد الرحمن.
عندَ مدخل القريَة، وحيثُ تصطفُّ سياراتُ أجرة بلون أقرب إلى البرتقال، ودعنَا الصيَّادُون، بعضهم يسحبُ بطاقة التعريف من جيبه، يحكِي عن المرض والأهل والمعاناة فِي بيوت القصدِير. هديرُ السيَّارة أنهَى الأحادِيث، فراحتِ الطرِيق تُطوَى، مخلفةً وراءهَا القصدِير وحكاياتهم مع بحر، شاعتْ لذَّة سمكه، أكثر مما ذاعت مآسي صيادِيه.